الإقتراع والديمقراطية

من Wiki Akhbar
اذهب إلى: تصفح، ابحث

تعقيبا على بوستي الأخير المرافق لمقالة علاء خزام عن ما يحدث في فرنسا، فإني أود أن أطرح معضلة فكرية سياسية هي في صميم المنظومة السياسة المسماة بالديمقراطية الليبرالية والتي نرى اليوم جدالاً حولها ذا شقين: الأول الفضاء الفكري في دولة مثل سورية منقسم إلى مطالب بالديمقراطية وإلى مطالب بانماط أخرى معاكسة مثل الديكتاتورية وحكم الإله عبر ممثليه؛ الثاني هو الشعبوية التي تحاول أن تستغل أدوات التواصل الجديدة من أجل إدخال عناصر جديدة (وليست بالضرورة جيدة) إلى النخب الحاكمة مثل أقصى اليمين القومي وخلطات جديدة من اليسارية والثقافوية. رغم أن موضوع الإقتراع كوسيلة لاختيار السياسيين غير مطروح كموضوع للنقاش، إلا أنه في صلب الصراعات الجارية. هل يمكن بناء نخبة سياسية حاكمة من خلال الإنتخابات. وكيف يمكن تبرير مشروعية هذه النخبة بناءً على الإقتراع. هذا السؤال يدفعنا إلى العمق، هل يحتاج النظام السياسي إلى شرعنة نفسه من خلال ادعاء التمثيل الذي يزعمون أنه ينتج عن الإنتخابات. إذن لدينا النقاط التالية: هل تحتاج النخبة الحاكمة إلى التمثيل لكي تدير الدولة؟ هل التمثيل هو الشرعية الوحيدة التي يمكن أن تدعيها النخبة الحاكمة؟ هل يمكن تحقيق التمثيل من خلال الإنتخابات؟ في الحقيقة، فإن النخبة الحاكمة تنقسم إلى قسمين، بيروقراطي غير منخب (يتم تعيينه)، وجدالي تفاوضي منخب (وهو مجلس الشعب وأي موظف في الدولة يحتل وظيفته من خلال الإنتخاب). الصفة المميزة للبيروقراطية هي التكنوقراطية، أي استخدام المعارف والمؤسسات لتنفيذ مهام مدروسة ومعقلنة (قد تكون الخدمات التي تقدمها الدولة أو القمع الذي تمارسه الدولة أو إعادة توزيع الثروة، أو كل ما نعبر عنه بمصطلح حوكمة أو إدارة رشيدة، وليس فقط حكم). الصفة المميزة للجزء المنتخب هي التفاوض، أو العمل السياسي بمعناه الضيق، اي تحقيق الإجماع من اجل اتخاذ القرارات (في الديكتاتورية ليس هنا داعي للإجماع، وعندها يتحول الجزء المنتخب إلى جزء حاكم متسلط، بمعنى ممارسة القمع والإحتكار). في النظام الديمقراطي يتم التركيز على الجزء المنتخب في حين أنه يشكل نسبة صغيرة من مجموع العاملين في الدولة. هذا الجزء في النظرية الديمقراطية هو المخول باتخاذ القرار، ويفعل ذلك من خلال التفاوض وصنع الإجماع (قرارات مجلس الشعب، مجالس المدن). هناك أيضاً الرئاسة أو السلطة التنفيذية التي تستطيع اتخاذ قرارات في هامش يحدده الدستور وغالباً يحتاج إلى موافقة مجلس الشعب وبذلك تكون الرئاسة في المنظومة الديمقراطية فاعلاً من الفواعل التي تدفع الإجماع ضمن السلطة التشريعية أو مجلش الشعب.

في ضوء هذا التعريف، هل يحتاج التفاوض، وهو سمة الجزء المنتخب، إلى التمثيل. اي هل يحتاج أي عضو في مجلس الشعب أن يمكون ممثلاً لقطاع أو فئة من السكان حتى يقوم بعمله؟ الجواب الذي يقفز إلى الذهن هو بالطبع وإلا كيف يختار العضو مواقفه من مشاريع القوانين المطروحة. ولا بد لمواقفه أن تعكس راي ومصلحة فئة من السكان. وهنا نعيد إنتاج النظرية الديمقراطية في حلقة تعيد إنتاج نفسها. لكن الحقيقة هي أن العضو في مجلس الشعب لا يعبر عن مصالح ناخبيه إلا نادراً بل يعبر عن مصالح فئات أخرى تملك المال والتقنية التي تجعلها قادرة على التأثير في أعضاء مجلس الشعب، بينما يتم انتخاب الممثلين على اساس جغرافي، أي يمثل العضو منطقة جغرافية معينة تحتوي على أنواع متعددة من الأعمال والمداخيل والثروات والثقافات المحلية والهويات الإجتماعية والسياسية. إن من الواضح أن العضو في مجلس الشعب لا يعبر عن أراء ومصالح ناخبيه بسبب تنوعها وبسبب أنه لا يحتاج إلى مواجهتها والإقرار بأهميتها إلا في الحملات الإنتخابية. إذن أعضاء مجلس الشعب يمثلون فئات مختلفة حسب مشروع القرار المطروح على النقاش، ونادراً ما يمثلون مصالح مناطقهم، وإن مثلوها فهم لا يمثلون إلا مصالح فئات معينة في تلك المناطق. إذن التمثيل أساسي في عمل الجزء المنتخب لأنه يتخذ القرارات لكنه تمثيل ديناميكي ولا يعكس الاساس الجغرافي للإنتخابات.

أنوه هنا أني أصبت أحد أسس الديمقراطية إصابة قاتلة مفادها: اتخاذ القرار في المنظومة الديمقراطية يقوم على تمثيل، لكنه تمثيل ديناميكي مخالف تماماً للاساس الجغرافي الجامد. إذن ما تقوم به الإنتخابات هو أولاً شرعنة وجود العضو في البرلمان وممارسته لاتخاذ القرار، وثانياً تداول السلطة كل فترة محددة من الزمن مما يمنع الإحتكار. لكنه لا يمار هذه التمثيل. والإجابة على الاسئلة أعلاه هي: النخبة الحاكمة لا تحتاج بالضرورة إلى التمثيل لإدارة الدولة (النموذج الديكتاتوري) إلا إذا بنت شرعيتها على أيديولوجيا التمثيل (الديمقراطية). التمثيل ليس الوسيلة الوحيدة لشرعنة الحكم.

لا يمكن تحقيق التمثيل الجامد الجغرافي من خلال الإنتخابات.

وكما يمكن أن تتحول الديكتاتورية الحكيمة (الملك العادل) إلى ديكتاتورية قمعية (الاسد)، يمكن أن تتحول الديمقراطية (التمثيل بالإنتخاب) إلى شعبوية مضرة (استخدام الدعاية ودغدغة المشاعر من أجل النجاح في الإنتخابات). في الحالة الأخيرة رأينا كيف يمكن أن يصل مجنون مثل طرامب إلى حكم دولة عظمى ديمقراطية من خلال استغلال مطالب مشروعة لطبقات مهمشة اقتصادياً وسياسياً. ولذلك فإن أفهم تماماً كيف يجنح الإسلامويون إلى الإعتقاد بأن تطبيق شرع الله أضمن بكثير من انتخاب افراد يعملون على هواهم (الغباء هو في الإعتقاد بأن هناك من يمثل الإله وبأن الشريعة الإسلامية جاءت من الله وليست قانوناً وضعياً)، كما أفهم تعلق يساريي الامس الذين ناضلوا من أجل فرض الإشتراكية من فوق إلى المطالبة بمنظومة ديمقراطية تحميهم من تعسف الديكتاتورية ومن صعود فئة ضيقة تدعي تمثيل الإله لتسيطر على السلطة. وفي ظل صعود اليمين المتطرف واليسار المعدّل والشعبوية السياسية، كيف يمكن لشعب مثل السوريين أن ينتقي منظومة حكم جديدة، أو ماهي المطالب السياسية التي يمكن أن ينادي بها السوريون المناهضون لنظام الديكتاتورية القمعية؟ هل نطالب بديكتاتورية حكيمة، أم بديمقراطية إنتخابية لا نعرفها ونعتقد أن لها وجه واحد مشرق، أم نتشبث بالفكرة القومية وادعاء تمثيل الشعب الواحد ذي الإرادة الواحدة، أم نبحث عن بعض الأخلاقيين الشرفاء ممن يدعون تمثيل الإله وتطبيق شريعته؟

أعتقد أن فكرة التمثيل جيدة في انتقاء النخبة الحاكمة، لكني لا اؤمن بالتمثيل الجغرافي الجامد. نعم الإنتخاب يحقق تداول السلطة، وكذلك القرعة (طرة نقش). الجدال التي تثيره حركة السترات الصفراء هو النسخة غير المسلحة للجدال السوري، المنظومة القديمة لم تعد تفي بالغرض ويجب استبدالها، يجب إيجاد طرق أخرى في تكوين النخب الحاكمة تجعلهم أكثر تعبيراً عن مصالح كل فئات الشعب (بطريقة من الطرق). لكننا لا نعرف تماماً كيف نصف الواقع الحالي ونفهمه حتى نحدد مطالبنا وحتى نبدأ باقتراح الحلول العملية. الصراعات الأيديولوجية الجارية في فرنسا تسعى إلى توصيف الواقع وطرح الحلول، وهذا ما حرمنا منه بسبب تسليح الثورة وعنف النظام (ولا اعرف إن كان تفاديهما ممكن).