الشرخ في المجتمع السوري
محتويات
14 يناير، 2019 - الحجاب والشرخ في المجتمع السوري
سأعود إلى الشرخ في المجتمعات السورية وقضية الإسلام السياسي وعلاقته بالحجاب. لكن لا بد هنا من لفتة سريعة إلى مقولات يستخدمها الجميع وأعني مقولات ما هو طبيعي وما هو اجتماعي ومصطنع. وهذا في صميم أيديولوجية الجسد والعورة والغواية والفتنة والجنس وبناء الاسرة والمجتمع والحياء والأخلاق العامة. إذا لم تكن هذه المفاهيم واضحة فإن الحوار سيكون حوار طرشان. جسد الرجل مختلف عن جسد المرأة، والشعور الجنسي عند كل منهما مختلف، ودور كل منهما في الإنجاب والتربية مختلف، وكذلك النظرة إلى الجنس وإلى العلاقة بين الجنسين. بالنسبة للبيولوجيا، ليس هناك أكثر من هذا يمكن قوله. كل شيء فوق الإعتراف بالإختلاف هو أيديولوجيا اجتماعية تختلف من مجتمع إلى آخر. الإختلاف موجود لكن معنى الإختلاف والغاية منه وكيفية ممارسته يصنعها المجتمع.ما نسميه "بالطبيعي" غالباً ما يكون أيديولوجيا. لا بل إن مفهوم "الطبيعي" جزء أساسي من أية أيديولوجيا. لأن وظيفة الأيديولوجيا أن تبقى وتستمر وبالتالي أن تعطي الإنطباع بأنها عضوية متجذرة طبيعية وليست خياراً أو تعاقدأ أو تفاهماً بين أفراد أو وهماً أو مؤقتة. مثلاً الإيمان بأن الإله موجود "وطبيعي" جزء أساسي من أي دين يقوم على آلهة، وكذلك الإيمان بأن الدين لم يتغير وأنه مطابق للفطرة الإنسانية، أي "طبيعي". واليوم نقول عن حقوق الإنسان أنها "طبيعية" وجزء من تركيبة عقل الإنسان، وهذا بالنسبة لي مؤشر على الايديولوجيا. الإسلام يتكلم عن الفطرة وكذلك الرأسمالية وحقوق الإنسان وكل الايديولوجيات بما فيها ايديولوجيا الجنس. من الصعب اليوم الحديث عن "كل المجتمعات" لأننا نعيش في زمان انتشر فيه الموديل الحضري الحضاري إلى كافة ارجاء الدنيا ما عدا جماعات منعزلة في الأمازون أو الجزر الهندية. كل هذه المجتمعات تعتمد نموذج العيش ضمن القرى والمدن والدول (عدا البدو لكن البداوية جزء من منظومة الحضارة) أي ضمن منظومات أعطت للجسد والجنس مفاهيم متشابهة. إننا بعيدون جداً عن زمان كانت توجد فيه آلاف الجماعات المنفصلة وغير الزراعية وبالتالي آلاف الموديلات لتكوين الجماعة أي آلاف الثقافات. ولذلك فعندما نقول أن كذا وكذا موجود في كل المجتمعات فإن العينة صغيرة وتقتصر على الزمن الحديث. لكن ومع ذلك فإن هناك مجالاً لبعض المقارنة النافعة.
الأثداء عند بعض الثقافات الإفريقية الصغيرة ليست أدوات إغراء، إنها مجرد أدوات لتغذية الأطفال. مفهوم الجمال الجسدي يختلف من جماعة إلى أخرى. الأفارقة قد يفضلون الخلفية النسائية الكبيرة. والعرب يعتقدون أن الشارب يعطي هيبة للرجل. بينما في كوريا اليوم يفضلون المرأة الشديدة النحافة وهناك ثقافة هوس نسائي بالشاب الجميل جمالاً كان يعتبر نسائياً. الأعضاء الجنسية لا تخرج عن هذه القاعدة. الإغريق القدماء، الأثينيون، كانوا يفضلون الجسد الذكوري ويعتبرونه أكثر جمالاً من الجسد النسائي، وكانت العلاقات المثلية منتشرة وجزء من الثقافة العامة. النساء عندهم كن يتغطين ويبقين في البيوت بينما الرجال كثيراً ما كانوا يحاربون عراة. في الحرب كانوا يلفون خيطاً حول خصر الرجل ويربطون العضو الذكري به حتى لا يعيق حركة المقاتل. العضو الإنثوي في بعض الحضارات القديمة كان عنواناً للخصوبة وله تماثيل ودم الحيض مقبول، بينما عند يهود العهد القديم، المرأة الحائض يجب أن لا ترى الشمس لسبعة ايام وإلا حلت المصائب بالجميع. في كثير من الثقافات المسماة بدائية الاطفال لا يلبسون شيئاً حتى عمر متقدم. ما يعتبره الصينيون جميلاً يراه الأوروبيون قبيحاً. زوجة أوباما مثلاً تعتبر جميلة عند الأمريكان السود وحتى البيض بينما يعتبرها كثير من العرب بشعة. في كاليفورنيا حيث درست كانت بعض الفتيات يأتين الجامعة بقميص وشور فوق البيكيني، وأحياناً دون قميص. الشابة الموظفة في شركة في فرنسا مجبرة على لبس الميني جوب (عرف) لكن في أمريكا الموظفات يلبسن الطويل ويتحاشين التزين. في الهند خصر المرأة التي تلبس الساري مكشوف بينما قد تضع الساري على رأسها في المكان الغريب عنها. الفرنسيون لا يقيمون وزناً كبيراً للأثداء الكبيرة جمالياً بينما الأمريكان مهووسون بالأثداء الكبيرة إلى درجة الضخامة. بعض النساء يرين تيم حسن جميلاً، وأنا لا أرى فيه إلا لاعب كمال أجسام لا يعرف كيف يمشي واين يضع عضلاته المتضخمة. الشعر الجسدي عند الرجل منبوذ جداً في امريكا وعلامة رجولة عند العرب. الوجه واليدين عند الحنبلية زينة وعند الشافعية يمكن الكشف عنها. صوت المرأة عورة عند البعض وغير عورة عند الآخرين.
لا يوجد تعريف واحد للعورة أو الجمال أو الحياء أو الإثارة الجنسية أو العلاقة الجنسية أو الاسرة أو الأخلاق العامة. لذلك فإن الإعتماد على شيء إسمه الفطرة البشرية في أية حجة عن الجنس والجسد هو اعتماد مبني على اسس واهية. لنتجه نحو المجتمعات الشرقية العربية والإسلامية. الأعضاء الجنسية تسمى عورة (أي تشوه) بينما في الغرب يسمونها الآن الاعضاء الخاصة اي التابعة لخصوصية الإنسان. إذن الأعضاء الجنسية تحمل قيمة سلبية (مشوهة وبشعة وناقصة). الغواية تعتبر صفة لاصقة بجسد المرأة وموجهة نحو الرجل الذي يقابلها بالإفتتان (بشقيه الإيجابي أي الاحساس بالجمال والسلبي اي الفتنة). الإفتتان عند الرجل يعتبر طبيعياً الى درجة أنه لا يستطيع أن يسيطر عليه ولذلك فلا داعي للتحكم بالرجل من أجل تفادي الفتنة وإنما يجب التحكم بجسد المرأة. الرجل هنا يظر بمظهر الضحية بينما المرأة تظهر خبيثة تعرف مصدر قوتها وتستخدمها دونما أدنى رادع لتخلق الفتنة. والفتنة هنا هي الصراع بين الذكور إما لامتلاك المرأة أو لامتلاك ثمرة رحمها اي الأولاد. إن كيدهن عظيم، هذا ما يقولونه. كل حروب الرجال وتعسف الملوك وخيانة الحلفاء وقتل الأبرياء ليس كيداً أما المرأة فتتقن الكيد وهو أعظم من كيد الرجال. الرجل هنا ايضاً ضحية غير فاعلة، مجرد مفعول بها. وهذا كله مع التأكيد على أن النساء ناقصات عقل وناقصات دين (بسبب خيار الغواية). هذا التحكم الشديد والخبيث بقوتها الجنسية وغواية جسدها يقابله فقدان كامل لتحكم الرجل بافتتانه واعتدائه الجنسي. هي السبب لا بل كانت ترغب بالإعتداء وخططت له. أتذكر في بداية الثورة ظهرت مشكلة الإغتصاب عند جميع الأطراف وأصبح من الضروري الحديث عن استراتيجية جمعية للتعامل مع الإغتصاب وضحاياه من النساء. ما وجدته في كلام الفقهاء والمفتين كان فعلا صادم ومخزي فقد وصعوا اللوم كله على المراة
15 يناير، 2019 - الشرخ
حان الوقت للحديث عن الشرخ في المجتمع السوري. افهم تماما ما قاله السواح واعرف من اين اتى ولماذا ولا ألومه بصراحة. الصراعات السياسية في سوريا كانت دائما صفرية. اي ان المنتصر في القصر والخاسر في القبر او في السجن، القصر او القبر. كما لم تكن السياسة صراعا على مناصب او سلطة فقط بل صراعا على اعادة صياغة المجتمع والدولة. السياسة في سوريا كانت دائما بنيوية وهوياتية وهذه دائما خلطة قاتلة. الوصول الى الحكم هو استخدام لقوة الدولة وادوات عنفها من اجل تحقيق مشروع شامل سياسي واجتماعي وفكري. كيف يمكن للجماعات ان تتعايش وللعلاقات بين الدولة والجماعات ان تنتظم في عقد اجتماعي اذا كان العقد دائما مؤجلا الى ما بعد الاستيلاء على السلطة والنية هي الفرض. في اواخر التاسع عشر وبداية العشرين كان هناك صراع مشابه في الدولة العثمانية تمثل في الصراع بين الموديل الغربي كما راه من اسمون انفسهم التنويريين وبين الموديل الاسلامي كما صممه السلطان عبد الحميد الثاني. وفي الحقيقة فان موديل الدولة عند الاسلامويين لاحقا لا يختلف كثيرا عن موديل عبد الحميد. معارضو عبد الحميد في سوريا لم يستطيعوا اقرار الموديل المعارض لانه احتوى على القومية التركية لكنهم احتفظوا كقوميين بصفة التنوير وراوا انفسهم كقادة سياسيين وفكريين لاصلاح المجتمع والدولة. وعندما انتهت الامبراطورية العثمانية تنطع هؤلاء التنويريون الشباب لمهمة جلب الاستقلال باعتبار ان معظمهم كانوا من اسر غنية ومتنفذة اجتماعيا واقتصاديا حتى سياسيا في دولة الانتداب. لكن كانت هناك معارضات اخرى للاحتلال ذات طابع اسلامي يرفع راية حماية الثقافة من الفرنسة والتبشير المسيحي الكاثوليكي. هذه المعارضة الاخيرة كانت تحمل ايضا عناصر معارضة للقوميين التنويريين باعتبار انهم قبلوا الموديل الثقافي الغربي وان لم يقبلوا الانتداب. هذا الشرخ في السياسة السورية استمر بعد الاستقلال بين ورثة التيارين اي القوميين من جهة والاخوان من جهة اخرى ودخلت التيارات اليسارية لتزيد الطين بلة اي لتزيد عدد المتصارعين على السلطة من اصحاب المشاريع الشمولية والعقلية الصفرية. ان وصول الاسد الى الحكم كان نتاج عدة عوامل اهمها باعتقادي هو العقلية الصفرية والمشاريع الشمولية وبالتالي الاقصائية والتدخلات الخارجية الاقليمية والعالمية وهشاشة مؤسسات الدولة وتغول الجيش على حسابها وهو منحى دعمته المنظومة الدولية. الاسد جمع في حكمه كل الصفات السيئة للسياسة السورية من صفرية وشمولية واقصائية وهوياتية وهشاشة مؤسسات.
منذ منتصف الستينات كانت كل القوى السياسية والايديولوجية السورية تعيش حالة احساس بالفشل وضياع المشروع الموجه رافقتها حالة من الاستقطاب والعنف المتزايد والاتهامات المتبادلة والتجييش المعارض. الحزب الشيوعي انقسم والاخوان انقسموا والبعث انقسم. الرهانات عالية والمزاج متوتر واكثر اقصائية والعنف وصل الى الشعب مع الطليعة المقاتلة واسرائيل تهدد والمقاومة الفلسطينية استقلت وبدات عملياتها الخاصة التي اخذت تهدد استقرار دول المنطقة وحتى وجودها.
في حين انقسم الشيوعيون حول تشخيص انقلاب الاسد ودعم الاتحاد السوفيتي له، كانت المسرحية مناسبة اكثر للاخوان فكون الاسد من اقلية دينية تكفرها الاغلبية السنية اعطاهم فرصة لتجييش الشارع ووضع كل غرمائهم في سلة واحدة جعلتهم لاحقا وعندما اعلنوا الجهاد عام ١٩٨٠ ان يقولوا للجميع "عودوا الى جحوركم" ورفضوا الانضمام الى تحالف اليسار في الاتحاد الوطني الديمقراطي الذي اعلن الاضراب العام. كانت النتيجة ان تحالف الاسد مع التجار والفلاحين وافشل الاضراب واعتقل اليساريين واعلن الحرب على الاخوان. الشرخ الذي كان يكبر تكرس الان واصبح عقدة من البغضاء والاتهامات بالخيانة والتفرد بالقرار والتصرف الاهوج والارتهان للخارج والخطر الوجودي. فهم السوريين لبعضهم وريبتهم من بعضهم وخوفهم الطائفي الوجودي يعود الى تلك السنوات العصيبة. بدايات وعيي السياسي والاجتماعي والفكري تعود الى ذلك الزمن. كان زمنا مضغوطا قولب الكبار والصغار. واذكر مرة عام ٢٠١٣ كتبت بوستا غاضبا عن اسلمة الثورة فاجابني احد الاصدقاء الذين احترم رايهم والذين دفعوا اثمانا باهظة في الثمانينات اكبر مما دفعت " انت لا تنتقد، انت تصفي حسابات قديمة". شكرا صديقي، كلنا نصفي حسابات قديمة ليس مع الاسد فقط بل مع بعضنا البعض ايضا. هذه هي ضريبة الشرخ السوري وسيفشل من يتابع دفعها ويصفي حساباته القديمة. الاخوان واليسار يصفون حساباتهم القديمة. السواح يصفي حساباته القديمة. فقط الاسد يفكر بمستقبله. يتبع
17 يناير، 2019 - متابعة الشرخ
اتابع موضوع الشرخ المجتمعي تكلمت في المرة الماضية عن الاحداث من 1976 الى 1982. حيث وصل الشرخ ذروته وتكرس ضمن مواقف وايديولوجيا ومعاناة وضحايا ومظلوميات ومؤسسات وممارسات يومية. لكن هناك شرخ ثقافي ايضا يهمله الجميع بدا قبل الاحداث واستمر خلالها وبعدها. ويمكن ان اعبر عنه عنها بثنائيات متعدد من المفردات مثل علماني واسلامي. لكن هذه المفردات لا تنتمي الى اي فضاء لغوي متعلم او نقدي او فلسفي بل الى فضاء لغوي ايديولوجي يومي طائفي مليء بالتمييز والكره والعداء، انها ببساطة شتائم. في حين كانت الحيوات والاجساد تطحن في ساحات المعارك والسجون والمنافي، كانت الهويات ايضا تتصارع في حرب وجودية اسلحتها الكلمات والعلاقات الاجتماعية وممارسات الحياة اليومية. كل ايديولوجيا في سوريا كانت تدعو الى هوية ونمط حياة بالاضافة الى نمط حكم وتعريف للانتماء. اي من هذه الايديولوجيات ما كانت تقبل بافساح مجال للاخر المختلف، او كانت تعطيه مكانة ادنى. ثنائية المتنور والجاهل اصبحت ثنائية العلماني والاسلامي مع مرورها زمنيا وفكريا بمراحل وثنائيات متعددة وطني- عميل، تقدمي -رجعي، سني -اقلوي، يساري -يميني، ابن بلد -جلب، اخلاقي -كافر، ابن مدينة-ضيعجي، برجوازي-مناضل، متقدم -متخلف، مثقف -جاهل. هذه الثنائيات موجودة في كل بلد وتدل على تفاوت اجتماعي واقتصادي لكنها تعيش ضمن اطار اعم تضمنه الدولة اي اطار المواطنة والمساواة امام القانون. لكني اعتقد ان حالة سوريا كانت مختلفة بعض الشيء اذ ان مفهوم الدولة والمواطنة عند كل ايديولوجيا لم يكن يتسع لطرفي الثنائية. قد اكون مخطئا لكني وددت ان اعترف بوجود ثنائيات اخرى غير علماني اسلامي قبل ان اركز فقط على هذه الثنائية. قد يعتبر الشيوعيون الخمسينات عصرهم الذهبي والبعثيون الستينات عصرهم الذهب والاخوان السبعينات عصرهم الذهبي، لكن كانت هناك في الخلفية حركة اجتماعية تحقق انتصارات منذ ذلك السبعينات والى الان. اليوم يسمونها الصحوة الدينية. حاولت فئات كبيرة ان تركب الموجة وان تجيرها وان تنسبها الى نفسها لكن اعلامها الذين يعرفون تماما موقعهم فيها هم المشايخ. كنت اعرف انها موجودة على مستوى الحياة الاجتماعية وعلى مستوى الصراع الايديولوجي، لكني لم استخدمها يوما كاداة للتحليل، كمرحلة، كحركة اجتماعية الى ان قرات كتابات الباحث البلجيكي توماس بيريه. استخدامي لها هنا ليس قائما على ابحاث في كتب او في الميدان، وانما ابحاث في الذاكرة. لا ازعم انها صحيحة او ان لها محتوى تفسيري كبير، لكني وجدت فيها اضاءة على جانب من حياتي وحياة سوريا في الخمسين سنة الماضية لم نكن نستخدمها الا في الصراعات الايديولوجية. ويبدو لي ان قيمتها التحليلية تكمن في محتواها الايديولوجي الايجابي او السلبي، حسب الطرف المستخدم لها. ما يسميه المشايخ باعتزاز الصحوة الدينية، اسميه هنا الشرخ الاجتماعي. واعتقد ان الربيع العربي والحرب السورية نقطة تحول تشير باتجاه انتهاء هذه المرحلة ولا اعرف لحساب من، ولا اعرف كم من الوقت سيدوم الانحدار والى اين سيؤدي. خارج حلبة الصراع، الانتصارات والخيبات، لم نستخدم الصحوة الدينية في التحليل. وهذه هنا محاولتي. زعمت في بوست سابق ان الحجاب كان من صنع الاسلام السياسي، وذهل البعض لذلك، اذ كيف يستطيع الاسلامويون قلب اعتقاد ملايين المسلمين والمسلمات عبر عدة دول وقارات. في الحقيقة انا لا افرق بين الاسلام السياسي والفئة التي انتجت الصحوة. لن يقبل مني هذا الخلط لا الاسلاميون ولا العلمانيون، وقد لا يقبله حتى الاكاديميون، لكني فعلا اعتقد ان الصحوة الدينية سياسية في صميمها حتى وان لم تدخل معترك السياسة كشعار او اشخاص. الجميع يقر بان القومية ايديولوجيا سياسية واجتماعية، والاشتراكيون يؤمنون بان قضيتهم شاملة، وكذلك الاسلامويون. فلماذا نفصل بين الصحوة الدينية وبين الاسلام السياسي، انها ببساطة المشروع الاجتماعي لايديولوجيا الاسلام السياسي. يتبع
17 يناير، 2019 - الصحوة والشرخ
اتابع موضوع الصحوة-الشرخ سيغضب كثيرون من هذا العنوان، لكن امهلوني. سيقول كثيرون ان كل ايديولوجيا جديدة تحفر لنفسها حيزا في المجتمع والافكار والمؤسسات قد تسبب او هي شرخ اجتماعي ثقافي. الليبرالية كانت شرخا في منظومة الاقطاعية الملكية في اوروبا، والاشتراكية كانت شرخا في كثير من البلدان الاوروبية، القومية كذلك وبوضوح. فكيف نحتفي اليوم بالثورات الليبرالية الاوروبية التي اعطتنا الديمقراطية وبالثورات القومية التي اعطتنا معظم دول العالم سواءا بالقضاء على الملكية القديمة او بالتحرر من الاستعمار. في الحقيقة ان اي تغيير متعدد الاصعدة يشكل شرخا في المجتمع، لكن اذا نجح طرف في الازمة من الانتصار فانه سيفرض سرديته وسيحكي قصة الثورة الحتمية التي نقلت المجتمع الى النور والتقدم ولن يحكي عن شرخ وصراع ومعاناة وآلام. يتحدثون عن الذاكرة الجمعية، انه مفهوم هراء محض. المجتمعات تنسى فقط ولا تتذكر، وكل ما تدعي انه ذاكرة جمعية فانه سردية المنتصر. لم تكن الامة القومية موجودة يوما حتى اخترعوها ولم تكن الخلافة موجودة يوما حتى اخترعوها ولا الديمقراطية موجودة حتى اخترعوها. قرات احدهم ينسب هذا القول لهيغل، اهم ما نتعلمه من التاريخ هو اننا لا نتعلم شيئا من التاريخ. لكن بعض مشاريع التغيير تفشل ويبقى الشرخ. لا اعرف كيف اميز بين المشروع المؤهل للنجاح وبين مشروع الشرخ غير المندمل. قد ياتي هذا اليوم. لكني اعرف كيف اميز المرحلة الانتقالية. انجازات البعض في الطريق الى النصر هي نفسها جروح الشرخ عند الاخرين. مشروع الثورة الروسية انتج شرخا وانتصارا، مشروع الثورة الايرانية كذلك، ومشروع الثورة السورية كذلك، مشروع الامة العربية، ومشروع الامة اليهودية، وكذلك مستقبل مشروع الامة الكردية. اذا لم يستطع المنتصر ان يكتب التاريخ ويقضي على الاطراف الاخرى جسديا او فكريا، فان الشرخ سيستمر كسرديتين متناقضتين في انتظار جولة اخرى. قد تكون هناك احتمالات اخرى، او ما يسمونه اليوم حلا للنزاع. المنظمات الدولية غير الربحية انتجت كما هائلا من هذه الادبيات الحالمة، اتمنى ان يحلوا اي نزاع وكل نزاع. الصحوة الدينية كاي مشروع تغيير احدث انتصارا-شرخا. اتذكر تماما النساء اللواتي توقفن عن مصافحتي، واتذكر السهرات التي لن تعود، واتذكر اتهامات الكفر التي لن تمحي، والمناقشات التي توترت وتوقفت، تماما كما اتذكر مداهمات المخابرات والاتهامات بالبرجوازية والعداء للنظام. واتذكر الخوف من الاجهار بالافطار كما اتذكر الخوف من امتلاك كتاب معين. اتذكر يوم اختفت من مكتبتنا كتب السيد قطب وكتب لينين. اتذكر يوم تعرضت لضغوطات للذهاب الى المسجد وضغوطات للانتساب الى حزب البعث. اين هذا كله من الصحوة الدينية. الصحوة لم تكن لتكسب ارضا جديدة دون ان تصنع مهاجرين وارضا ضائعة. قد يرى الناس اليوم من الغباء تعريف العلمانية او اليسارية بشرب الكحول ولبس الميني جوب ومايوه السباحة وحفلات الرقص. لكن لنعتبر ان العلمانية هوية وليست مجرد تغيير في خدمات الدولة، تماما كما كانت الصحوة هوية. عدم مصافحة الجنس الاخر مقابل حفلة مختلطة ، وارتداء الزي المسمى اسلامي مقابل ارتداء الميني جوب، واستخدام السواك مقابل شرب الخمر،وتمضية اليوم في الجامع مقابل تمضيته في حمام السباحة، واحياء مولد بالتلاوة والمديح مقابل احياء حفلة رقص وغناء. هذه الممارسات اليومية البسيطة التي نسخر منها اليوم، حسب الطرف، هي مؤشرات هوياتية قد تاخذ الصدارة حين ندخل في حرب هوياتية. هذه الممارسات تشكل انتصارات صغيرة ومتراكمة لاحد الاطراف وهزائم او افعال مقاومة للاطراف الاخرى. هل كان ممكنا ان يكون الانسان متنورا دون ان يكون جاره متخلفا، او ان يكون متدينا دون ان يكون جاره كافرا. هل يمكن ان يكون الانسان عربيا وكرديا، علمانيا ومسلما، محجبة ومتحررة، اخلاقيا وملحدا، منا ومختلفا عنا. عندما تكون الهويات صلبة الى درجة الاجبار على اعلان البراء والولاء، فاننا حتما امام شرخ. اذا كانت الصحوة الدينية لا تسمح بتعايش هؤلاء الجيران وهذه السمات، فيجب ان نعترف بان التنوير العلماني، والتقدمية اليسارية، والقومية العربية والاسلامية السياسية كلها شروخات لم تندمل او مشاريع شروخات لن تندمل. اقول دائما ان بلدي الذي ترعرت فيه لم يعد موجودا، ليس فقط لان الابنية تهدمت او تغيرت، بل كذلك لان ثقافة فئة اجتماعية معينة اختفت بسبب صعود هذه الايديولوجيا الذي حتم هبوط تلك. ما قاله السواح ليس تحليلا علميا، انما هو صرخة هوياتية بلباس مثقف. كل ردة فعل على السواح من مجتمع عربي معين عبرت عن شروخ ذلك المجتمع، وقد احببت ان احكي قصة الشرخ السوري حتى لا يتجرا البعض على تجيير هذه اللحظة لمصالحهم الايديولوجية خارج سياقها. كلمة اخيرة. الصحوة الدينية لم تكن سورية فقط لكني تحدثت عن حيثياتها السورية. هناك ابعاد اخرى للصحوة مهمة جدا لم اتطرق لها ومنها صعود بلدان الخليج كمجتمعات قومية متمايزة عن جيرانها، الهجرة الواسعة للمسلمين الى الغرب، التحولات الضخمة في ايران وتركيا، وتوسع الطبقات الوسطى في مجتمعات المنطقة. يعتقد الكثيرون ان بلدان الخليج جزء من امة عربية او اسلامية، او ان اي بلد عربي جزء من امة اكبر ومشروع اكبر. لكن من المهم جدا الانتباه ان القومية تاتي بعد الدولة، وبالتالي فان كل الدول العربية كرست وجودها المستقل من خلال ممارسات قومية محلية مع التشدق بانتماءات اوسع. الخليج جلب العمالة العربية تحت غطاء الاخاء العربي لكنه لم يسمح لهذه العمالة ابدا ان تتوطن وتتجنس. اذا سحبنا القومية العربية من الصورة فسنجد ان القوميات اللبنانية والسورية والاردنية المتمثلة بتلك الدول ظهرت باستهلاك القضية والقومية الفلسطينية، وان القومية السعودية ظهرت باستهلاك القومية العربية والاسلامية. ان الصحوة الدينية التي شكلت احد اهم العناصر الايديولوجية في تكوين القوميات المحلية الخليجية استهلكت ما يمكن تسميته بالقومية الاسلامية. لا اقول ان الخليج انتج الصحوة، فهي ظهرت في كل مجتمع حسب خصوصياته، لكنها شكلت دفعا هائلا للصحوات الدينية في كل الدول العربية المحيطة تماما كما انتجت قطر وتركيا الحرب في سوريا، الحرب وليس الثورة.